لفصل الحادى عشر ) استعـــداد للـــــــــــــقتال اهتزت القاهرة ومصر لخبر (مجىء حملة لويس) وثارت النفوس كلها ثورة عارمة ونهضت الألسنة بقوة تعبئ القلوب للمعركة وهرع الناس إلى المساجد يستمعون إلى خطب الخطباء.
كانوا يعرضون على الناس آيات من كتاب الله وأحاديث رسوله التى تحث على الشجاعة والإقدام والضرب والطعان والنزال والبذل فى سبيل الله بالمال والأرواح وفى حلقات أخرى ترتفع الأصوات بالحديث عن غزوات الرسول "صلى الله عليه وسلم" وعن بلاء المجاهدين فيها وعن الشهداء وجزائهم.
وقد هب الجنود إلى أسلحتهم وامتلأ جبل (يشكر) بالمجانيق التى تجرب لتحمل فى السفن وذهب كثير من الناس إلى الأمير "حسام الدين"يعرضون عليه أنفسهم ويرجونه أن يأذن لهم فى لقاء المعتدين, ولا يحرمهم رضوان ربهم وجناته فيختار منهم من يطيق الحرب فينضمون إلى الجيش فرحين ويعود غير القادرين باكين منتحبين.
لم تلبث السفن أن أقلعت بالرجال والعدد والميرة وقد خرج الجميع لتحيتها رافعى الأصوات بالدعاء لها بالنصر، واندفع القادرون سائرين على أقدامهم والسفن بجانبهم فى النهر يسير بعضها خلف بعض تنتقل من قرية إلى قرية بين الهتاف والتصفيق والدعوات الصادرة من القلوب المخلصة تزيد أعداد من بها كلما تقدمت.
وقد تم اختيار الأمير (فخر الدين بن شيخ الشيوخ) لقيادة الجيش وأمره السلطان بأن تحشد دمياط بالأسلحة والذخيرة والأقوات! وأن يتحاشى كل الأخطاء السابقة التى مكنت الفرنج من الصمود فأخبره فخر الدين بأنهم متيقظون لكل شىء ووعوا التجارب السابقة وتحاشوا الأخطاء.
فتدارس معه الخطة وكانت كالتالى:
1-تنزل بجيشك على البر الغربى للنيل لتعوق تقدم الفرنج عن الوصول إلى دمياط.
2-لا ينظر لشىء سوى وجه الله وأن يبعث فى نفوس جنوده من روحه وأن يقودهم للموقف العصيب حتى يسبقوه إليه.
3-ابعد عن الشائعات وما يذيعه المرجفون وأن يجعل ما يسمع منها دبر أذنه وتحت قدميه، وأن يتفادى كل الأخطاء التى وقعت أيام الملك الكامل كما أخبره السلطان بأنه كان يتمنى أن يقود الجيش بنفسه، لكن الأطباء منعوه من ذلك.
وأحس السلطان بقرب النهاية وأن المرض الذى يعانيه لا شفاء منه وشجرة الدر تحاول تخفيف آلامه وتطمئنه فيؤكد لها السلطان بأنه لا يخشى الموت ولكنه يشفق على المملكة من التمزق والخلاف من بعده ثم شد السلطان على يد فخر الدين وأوصاه بالاعتماد على الله وأن يتقدم الصفوف وأخبره بطبيعة الفرنج فهم جبناء رعاديد لم يلتق العرب بهم إلا نالوا من رءوسهم وأفئدتهم ما يشتهون؛ لأن العرب يدفعون سيوفهم بأيدى الإيمان والحق وأولئك يدفعون سيوفهم بأيدى العدوان والطمع ونحن على أرضنا وهم لصوص جاءوا ليخطفوا فقلوبهم خائفة ونفوسهم وجلة والأرض تهتز من تحت أقدامهم لا تثبت إلا بخيانة أو غدر.
وفقك الله أيها القائد الشجاع المؤمن وحقق أملنا فيك وأدام عليك صفحتك الناصعة فى سبيل الوطن فليست هذه أول معركة لك بل قمة جهادك وبلائك. قدم رسول الفرنج برسالة فلم يسمح له نجم الدين بالمثول بين يديه بل طلب الرسالة ووقف كاتبه يتلوها عليه، وقد جاء فيها:
1-أنهم فتحوا بلاد الأندلس وأن أهل تلك الجزائر يحملون إلينا الأموال والهدايا.
2-وأنهم يسوقونهم سوق البقر ويقتلون منهم الرجال ويرملون منهم النساء ويستأثرون البنات والصبيان ويخلون منهم الديار.
3-تحذيره من كثرة العساكر التى معه وفى طاعته والتى تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصى.
4-يكون نجم الدين نائبه على مصر ويرسل له ما لديه من مراكب وطرايد وشوان.
تلاحقت أنفاس نجم الدين وكان فى قمة الغضب, وهو يصيح بما يستطيع من قوة يطلب كاتبه.
ليعجل بالجواب فغاب الكاتب قليلا ثم عاد يقدم ما كتب. والسلطان يرتعد من شدة الغضب ويقول له "اقرأ على: ألم تخاطبه بما يستحق ".فكتب ..
1-"بسم الله الرحمن الرحيم, وصلوات الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين... أما بعد فقد وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك, فنحن أرباب السيوف, ما قتل منا قرن إلا جددناه, ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه".
وعندما بلغهم الرد طارت بهم الألباب وفقد لويس الصواب وأصدر أمره فبدأت المناوشة بين الجيشين, وقلاع دمياط متحفزة وحصونها متطلعة والجند يرتقبون الإشارة بالهجوم على لويس وجماعته.
وتأخر الإذن من السلطان بالاشتباك مع الفرنج فاشتدت حيرة فخر الدين فيما يصنع. أيبقى ويلتحم بالفرنج أم يسير إلى أشموم طناح ليرى ما صنع الله بالسلطان وأين اتجهت دفة الأمور.
عندما تقدم الليل تقهقر فخر الدين بجنوده، ففزعت دمياط أشد الفزع، وهب النائمون فى ذعر وحملوا ما استطاعوا من أمتعتهم ثم خرجوا هائمين على وجوههم، وفزع أهل القاهرة لما رأوا وما سمعوا وأقبل بعضهم على بعض يتشاورون.
وهب حسام الدين بن الشيخ يهدئ من روعهم وأسرع الخطباء والعلماء إلى المساجد والمجتمعات يثبتون قلوبهم. ويؤكدون لهم أن العبرة بالخاتمة لا بالمقدمة ويقصون عليهم أنباء الغزوات وما زلزل فيه المسلمون زلزالًا شديدًا ثم أتى نصر الله فهزم الأعداء ودفع الباطل واندحر الباغون ولم يزالوا بهم حتى هدءوا وأفاقوا وانقلب خوفهم أمنًا وقوة ثم اشتعل حماسة وثورة ثم انتهى إلى أن يلحق القادرون بإخوانهم المجاهدين.
غضب نجم الدين غضبا شديدًا ودعا بفخر الدين ومن كان معه من الأمراء وقدمهم إلى محكمة من العلماء لتحاكمهم بسبب فرارهم من ميدان القتال.ولذلك احتل الفرنج دمياط دون قتال بعد أن غادرها الجيش وهجرها أهلها.