(الفصل التاسع) الوحدة طريق النصر
غضب الشعب العربى للفرقة والانقسام والخلاف الناشب بين حكامه من الملوك والأمراء وأخذ ينظر إلى تلك القوة المهدرة التى يضيعونها فى الحروب بينهم ويتركون الفرنج يحتلون البلاد وتمنى المخلصون من العرب فى القاهرة ودمشق لو أن حكامه اتحدوا ووجهوا تلك الجهود لمحاربة العدو.
وقد تكونت جمعيتان سريتان إحداهما بالقاهرة والأخرى بدمشق. وأخذت كل منهما تعمل على بث الكراهية للفرنج ومن يلوذ بهم وعلى توحيد الصفوف وتعبئة القلوب ليوم الفصل.
وكان من البارزين فى جمعية القاهرة «أبو بكر القماش»، وكان من البارزين فى جمعية دمشق «الشيخ عز الدين بن عبد السلام» العالم الكبير الذى ذاع عنه صراحته وإقدامه وتمسكه بالحق ومواجهة المخطئين بأخطائهم.
ومنذ ولى نجم الدين مقاليد مصر وجمعية القاهرة تجهر برأيها وأنصارها يتكاثرون.
وقد اجتهد نجم الدين فى إصلاح البلاد ورد المظالم وتثبيت قواعد المملكة وتعمير ما أفسده "العادل" وحاشيته.ولكن السياسة الرشيدة لم ترق فى أعين الحاقدين فعملوا على هدمها.فلما تأكد لديه ما يقوم به الأمراء قبض عليهم وصادر أملاكهم وأموالهم وقتل عددًا منهم، ومن لم يدركه فر إلى دمشق والتجأ إلى الصالح إسماعيل وخرج داود خائفًا من أن يصنع به ما صنع بالأمراء وعاد إلى الكرك ومعه (ورد المنى ونور الصباح) و(سواد بنت الفقيه).
لما علم الصالح إسماعيل بما صنع نجم الدين بالأمراء وما يستعد به الجنود من الأسلحة والذخائر والسفن الحربية اشتد فزعه وبيت أمره على مبادرة نجم الدين قبل أن يسير إليه. فكاتب الفرنج واتفق معهم على أن ينصروه على نجم الدين وأعماه الحقد والخوف فقدم لهم ما أرادوا من البلاد ثمنًا لتلك المعاونة وطار خبر هذا الاتفاق(بين إسماعيل والفرنج) إلى مصر.
فهب أعضاء جمعية القاهرة يستصرخون المسلمين, ويدعونهم إلى الجهاد والتطوع بالأنفس والأموال لمحاربة إسماعيل.
أما دمشق فغلت مراجلها من شدة النار المشتعلة فى الصدور, ثم زادها غليانًا إذن إسماعيل للفرنج بدخولها لشراء السلاح منها. واندفع أولئك الفرنج إلى ذلك السلاح وأدوات الحرب يشترونها بما يعرض أصحابها من غالى الأثمان فماجت القلوب فى الصدور وهرع الناس إلى العلماء يستفتونهم فى هذه الجريمة, فأفتوا بتحريم بيع السلاح للفرنج, وبأن من يبيعه لهم آثم خارج عن الدين مفارق للملة والجماعة.
جهر عز الدين بن عبد السلام بفتواه على منبر الجامع الأموى بدمشق، وأعلن أن الملك الذى أباح ذلك خارج عن دين الله, ناشز عن الجماعة لا يصلح أن يكون ملكًا للمسلمين ثم قطع الدعاء له فى خطبة الجمعة.عند ذلك أمر الصالح باعتقاله فلم يبال ابن عبد السلام وفتح صدره للموت بعدما أدى واجبه نحو دينه ووطنه، ولكن أنصاره الكثيرين أخافوا إسماعيل من مغبة عمله واضطروه إلى الإفراج عنه فأخرجه مطرودًا إلى مصر.
وعندما التقى جيش مصر وجيش الشام كانت المفاجأة أن انحاز كثير من جيش الشام إلى جيش مصر بتدبير من جمعية دمشق وانقضوا على الفرنج يقتلونهم ويقتلون من بقى مع إسماعيل حتى كادوا يفنونهم جميعًا.
فرحت مصر بهذا النصر العظيم وأقبلت شجرة الدر تهنئ السلطان نجم الدين فى حبور قائلة "دنا الأمل يا مولاى" وعلى يديك ستتوحد البلاد كما وحدها صلاح الدين.
قال نجم الدين فى سرور: كنت أود أن أكون مع الجيش يا شجرة الدر, أشاهد اندحار العدو وتشتته وألاحقه وأقضى عليه.
قالت "بل تقيم يا مولاى فى مصر, وتبعث بجيشك المظفر, فكل سيف يضرب إنما هو سيفك وبيمينك يا مولاى يهزم الأعداء, ميدان الإصلاح فى مصر لا يقل خطرًا عن ميدان السلاح!
اقتنع برأيها وأرسل جيوشه تتابع الانتصار فالتقت مرة أخرى بجيش إسماعيل والفرنج وأعادت الكرة عليهم إفناء وتشريدًا وأسرًا. واستمرت أفراح شجرة الدر ونجم الدين بالانتصارات حتى كان الحادث الأليم الذى أصابهما بحزن شديد وتركهما فى هم مقيم, وذلك حين مرض ابنهما "خليل" ولم تجد معه محاولات الأطباء.
بذل نجم الدين جهده فى تخفيف آلام شجرة الدر فقام معها برحلة نيلية لرؤية آثار مصر فى جنوب الوادى.ثم قاما برحلة فى أحضان الريف فى شمال البلاد للاستمتاع بهدوئه الشامل.
وإذا بالبريد يقبل مسرعًا بأن إسماعيل هجم على حمص ولا يريد أن ينتهى هذا الصراع إلا بنزع فؤاده الذى بين جنبيه! وتوعد نجم الدين أن يورد إسماعيل مورد الهلاك هو و "سوداء بنت الفقيه وورد المنى ونور الصباح"!